كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)}.
قوله: {الحنث}: هو في أصلِ كلامهم العِدْلُ الثقيل، وسُمِّي به الذنبُ والإِثم لثقلِهما، قاله الخطابي: وفلانٌ حَنَثَ في يمينه أي: لم يَفِ بها؛ لأنه يَأْثَمُ غالبًا، ويُعَبَّرُ بالحِنْث عن البلوغِ ومنه (لم يَبْلُغوا الحنث) وإنما قيل ذلك لأنَّ الإِنسانَ عند بلوغِه إياه يُؤَاخذ بالحِنْث أي بالذنب. وتَحَنَّثَ فلانٌ أي: جانَبَ الحِنْثَ. وفي الحديث: «كان يَتَحَنَّثُ بغار حراء» أي يتعبَّد لمجانبته الإِثمَ نحو: تَحَرَّجَ ف تَفَعَّلَ في هذه كلِّها للسَلْب.
{وَكَانُوا يَقولونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)}.
قوله: {أَإِذَا مِتْنَا}: قد تقدَّم تقرير هذا كلِّه في الصافات. وتقدَّم الكلامُ على الاستفهامَيْن في سورة الرعد فأغنى ذلك عن إعادةِ كلِّ ذلك ولله الحمد.
{لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)}.
قوله: {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ}: فيه أوجه، أحدها: أَنْ تكونَ (من) الأولى لابتداء الغاية، والثانية للبيان أي: مُبْتَدِئون الأكلَ من شجرٍ هو زَقُّوم. الثاني: أَنْ تكونَ (من) الثانيةُ صفةً لشجر، فتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي: مستقرٍ. والثالث: أَنْ تكونَ (من) الأولى مزيدةً أي: لآكلون شجرًا، و(من) الثانيةُ على ما تقدَّم فيها من الوجهَيْن. الرابع: عكسُ هذا، وهو أَنْ تكونَ الثانيةُ مزيدةً أي: لآكلون زَقُّومًا، و(من) الأُولى للابتداء، أو في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ {زَقُّوم} أي: كائنًا مِنْ شجرٍ، ولو تأخَّر لكان صفةً. الخامس: أنَّ {مِنْ شجر} صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ أي: لآكلون شيئًا مِنْ شجرٍ، {ومِنْ زَقُّوم} على هذا نعتٌ لشجر، أو لشيء المحذوفِ. السادس: أنَّ الأولى للتبعيض، والثانيةَ بدلٌ منها، والضميرُ في {منها} عائدٌ على الشجر. وفي {عليه} للشجر أيضًا، وقد تقدَّم أنه يجوزُ تذكيرُ اسم الجنس وتأنيثُه، وأنهما لغتان. وقيل: في {عليه} عائدةٌ على الزقوم. وقال أبو البقاء: للمأكول. وقال ابن عطية: للمأكول أو الأكل. انتهى وفي قوله: (الأكل) بُعْدٌ. وقال الزمخشري: وأنَّثَ ضميرَ الشجر على المعنى، وذكَّره على اللفظ في {منها} و{عليه}. ومَنْ قرأ {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} فقد جعل الضميرين للشجرةِ، وإنما ذكَّر الثاني على تأويلِ الزَّقُّوم لأنه تفسيرُها.
{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)}.
قوله: {شُرْبَ الهيم}: قرأ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ بضم الشين، وباقي السبعة بفتحِها، ومجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرِها فقيل: الثلاثُ لغاتٌ في مصدر شَرِب، والمقيسُ منها إنما هو المفتوحُ. وقيل: المصدرُ هو المفتوحُ والمضموم والمكسورُ اسمان لِمَا يُشْرَبُ كالرِّعْي والطِّحْن. وقال الكسائي: يُقال شرِبْتُ شُربًا وشَرْبًا. ويروى قول جعفر: (أيامُ مِنى أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ وبِعال) بفتح الشين. والشَّرْب في غيرِ هذا اسمٌ للجماعة الشاربين قال:
كأنَّه خارِجٌ من جَنْبِ صَفْحَتِهِ ** سَفُّوْدُ شَرْبٍ نَسُوْهُ عند مُفْتَأَدِ

والمعنى: مثلَ شُرْبِ الهِيم. والهِيْمُ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه جَمْعُ أَهْيمَ أو هَيْماء، وهو الجَمَلَُ والناقةُ التي أصابها الهُيامُ وهو داءٌ مُعْطِشٌ تشرب الإِبلُ منه إلى أن تموتَ أو تَسْقُمُ سُقْمًا شديدًا، والأصلُ: هُيْم بضمِّ الهاءِ كأَحْمر وحُمْراء وحُمْر، فقُلِبت الضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ، وذلك نحو: بِيْض في أبيض. وأُنْشد لذي الرمة:
فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ ** صَداها ولا يَقْضي عليها هُيامُها

الثاني: أنه جمع هائِم وهائِمة من الهُيام أيضًا، إلاَّ أنَّ جَمْعَ فاعِل وفاعِلة على فُعْل قليلٌ نادرٌ نحو: بازِل وبُزْل وعائِذ وعُوْذ ومنه: العُوْذُ المَطافيل. وقيل: هو من الهُيام وهو الذَّهابُ؛ لأنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك هامَ على وَجْهه. الثالث: أنه جمع هَيام بفتح الهاء وهو الرَّمْلُ غيرُ المتماسكِ الذي لا يُرْوَى من الماء أصلًا، فيكونُ مثلَ سَحاب وسُحُب بضمتين، ثم خُفِّف بإسكان عينه ثم كُسِرَتْ فاؤه لتصِحَّ الياء، كما فُعِلَ بالذي قبله. الرابع: أنَّه جمعُ (هُيام) بضم الهاء وهو الرَّمْل غيرُ المتماسكِ أيضًا لغةً في (الهَيام) بالفتح، حكاها ثعلب، إلاَّ أن المشهورَ الفتحُ ثم جُمع على فُعْل نحو: قراد وقُرْد، ثم خُفِّفَ وكُسِرَتْ فاؤُه لتصِحَّ الياء والمعنى: أنَّه يُصيبهم من الجوع ما يُلجِئُهم إلى أَكْلِ الزَّقُّوم، ومن العطشِ ما يَضْطرُّهم إلى شُرْب الحميم مثلَ شُرْبِ الهِيْم. وقال الزمخشري: فإن قلتَ: كيف صَحَّ عَطْفُ الشاربين على الشاربين، وهما لذواتٍ واحدةٍ، وصفتان متفقتان، فكان عطفًا للشيء على نفسِه؟ قلت: لَيْستا بمتفقتَيْن من حيث إنَّ كونَهم شاربين على ما هو عليه مِنْ تناهي الحرارة وقَطْع الأمعاء أمرٌ عجيبٌ، وشُرْبُهم له على ذلك كما تَشْرَب الهِيم أمرٌ عجيب أيضًا، فكانتا صفتَيْن مختلفتَيْن. انتهى يعنى قوله: {فشاربون عليه من الحميم فشاربون} وهو سؤالٌ حسنٌ، وجوابُه مثلُه.
وأجاب بعضُهم عنه بجواب آخر: وهو أنَّ قوله: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} تفسيرٌ للشُرْب قبلَه، ألا ترى أنَّ ما قبلَه يَصْلُح أن يكونَ مثلَ شُرْبِ الهيمِ ومثلَ شُرْبِ غيرِها ففَسَّره بأنه مثلُ شُرْبِ هؤلاء البهائم أو الرِّمالِ.
وفي ذلك فائدتان، إحداهما: التنبيهُ على كثرةِ شُرْبهم منه والثاني: عَدمُ جَدْوَى الشُّرْب، وأن المشروبَ لا يَنْجَعُ فيهم كما لا يَنْجَعُ في الهِيْم على التفسيرَين.
وقال الشيخ: والفاءُ تقتضي التعقيبَ في الشُّرْبَيْنِ، وأنهم أولًا لمَّا عَطِشوا شَرِبوا من الحميم، ظَنًّا منهم أنه يُسَكِّنُ عَطَشَهُم، فازداد العطشُ بحرارةِ الحميمِ، فشربوا بعده شُرْبًا لا يقع بعدَه رِيٌّ أبدًا. وهو مِثْلُ شُرْبِ الهيم فهما شُربان مِنَ الحَميم لا شُرْبٌ واحدٌ، اختلفَتْ صفتاه فَعَطف. والمشروبُ مِنْه في {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} محذوفٌ لفَهْمِ المعنى تقديرُه: فشاربون منه. انتهى. والظاهرُ أنه شُرْبٌ واحدٌ بل الذي نعتقدُ هذا فقط، وكيف يُناسِبُ أَنْ تكونَ زيادتُهم العطشَ بشُرْبِه مقتضيةً لشُرْبِهم منه ثانيًا؟
{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}.
وقرأ العامة: {نُزُلُهم} بضمتين. ورُوي عن أبي عمروٍ من طُرُق، وعن نافعٍ وابنِ محيصنٍ بضمةٍ وسكونٍ، وهو تخفيفٌ. وقد تقدَّم أن النُّزُلَ ما يُعَدُّ للضيفِ. وقيل: هو أولُ ما يأكلُه فسُمِّي به هذا تهكُّمًا بمَنْ أُعِدَّ له، وهو في المعنى كقول أبي السعر الضَّبِّي:
وكُنَّا إذا الجبَّارُ أَنْزَلَ جَيْشَه ** جَعَلْنَا القَنا والمُرْهَفاتِ له نُزْلا

{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)}.
قوله: {فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ}: تحضيضٌ. ومتعلَّقُ التصديقِ محذوفٌ تقديرُه: فلولا تُصَدِّقُون بخَلْقِنا.
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)}.
وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ}: هي بمعنى أَخْبِرْني. ومفعولُها الأولُ {ما تُمْنُوْن}، والثاني: الجملةُ الاستفهاميةُ، وقد تقدَّم تقريرُ هذا.
{أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)}.
و {أَأَنتُمْ}: يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنه فاعل فعلٍ مقدرٍ أي: أتخلقونه، فلَمَّا حُذِفَ الفعل لدلالةِ ما بعدَه عليه انفصل الضميرُ، وهذا من بابِ الاشتغال. والثاني: أنَّ {أنتم} مبتدأٌ، والجملةُ بعده خبرُه. والأولُ أرجحُ لأجلِ أداةِ الاستفهام.
وقوله: {أَم} يجوز فيها وجهان، أحدهما: أنها منقطعةٌ؛ لأن بعدها جملةً، وهي إنما تَعْطِفُ المفرداتِ. والثاني: أنها متصلةٌ. وأجابوا عن وقوعِ الجملةِ بعدها: بأنَّ مجيءَ الخبرِ بعد {نحن} أُتي به على سبيلِ التوكيدِ إذ لو قال: {أم نحنُ} لاكتُفِيَ به دونَ الخبرِ. ونظيرُ ذلك جوابُ مَنْ قال: مَنْ في الدار؟ زيدٌ في الدار، أو زيدٌ فيها، ولو اقْتُصِر على (زيد) لكان كافيًا. قلت: ويؤيِّد كونَها متصلة أنَّ الكلامَ يَقْتَضي تأويلَه: أيُّ الأمرَيْن واقعٌ؟ وإذا صَلَحَ ذلك كانت متصلةً إذ الجملةُ بتأويلِ المفردِ.
ومفعولُ {الخالقون} محذوفٌ لفَهْم المعنى أي: الخالِقوه.
وقرأ العامة: {تُمْنُوْن} بضمِّ التاء مِنْ أَمْنَى يُمْني. وابن عباس وأبو السَّمَّال بفتحِها مِنْ مَنَى يَمْنِي. وقال الزمخشري: يقال: أمْنَى النُّطْفَةَ ومَناها. قال اللَّهُ تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} [النجم: 46] انتهى. فظاهرُ هذا أنه استشهادٌ للثلاثي، وليس فيه دليلٌ له؛ إذ يُقال من الرباعي أيضًا {تُمْنَى} كقول: (أنت تُكْرَم) وهو مِنْ أَكْرَم.
{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)}.
وقرأ ابن كثير {قَدَرْنا} بتخفيفِ الدال. والباقون بالتشديد هنا، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ في التقدير الذي هو القضاءُ.
{عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)}.
قوله: {على أَن نُّبَدِّلَ}: يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بـ: (مَسْبوقين) وهو الظاهرُ، ولم يَسْبِقْنا أحدٌ على تبديلِنا أمثالَكم أي: يُعْجِزْنا يُقال: سبقَه على كذا أي: أَعْجَزه عنه وغَلَبه عليه. والثاني: أنه متعلِّقٌ بقوله: {قَدَّرنا} أي: قَدَّرْنا بينكم على أَنْ نُبَدِّلَ أي: نُمَوِّت طائفةً ونَخْلُقَها طائفةً أخرى، قال معناه الطبري. فعلى هذا يكون قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} معترضًا، وهو اعتراضٌ حسنٌ.
ويجوز في {أمثالَكم} وجهان، أحدهما: أنه جمعُ (مِثْل) بكسر الميم وسكون الثاء، أي: نحن قادرون على أن نُعدِمَكم ونَخْلُقَ قومًا آخرين أمثالَكم، ويؤيِّده: {إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم أيها الناسُ ويَأْتِ بآخرين} والثاني: أنه جمع (مَثَل) بفتحتين، وهو الصفةُ أي: نُغَيِّرُ صفاتِكم التي أنتم عليها خَلْقًا وخُلُقًا، ونُنْشِئُكم في صفاتٍ غيرِها.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)}.
وتقدَّم قراءتا {النشأة} في العنكبوت.
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)}.
قوله: {أَفَرَأَيْتُم}: وما بعده قد تَقَدَّم نظيرُه. وأُتي هنا بجواب (لو) مقرونًا باللام وهو الأكثرُ؛ لأنه مُثْبَتٌ وحُذف في قوله: {جَعَلْناه أُجاجًا} لأنَّ المِنَّةَ بالمأكولِ أعظمُ منها بالمشروب.
وقرأ طلحة {تَذْكُرُون} بسكون الذال وضمِّ الكاف.
{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)}.
قوله: {فَظَلْتُمْ}: هذه قراءة العامَّةِ أعني فتحَ الظاء مع لامِ واحدة. وقد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفى في طه. وأبو حيوة وأبو بكرٍ في روايةٍ بكسرِ الظاء. وعبد الله والجحدريُّ {فظَلِلْتُمْ} على الأصل بلامَيْن، أُولاهما مكسورةٌ. ورُوي عن الجحدري فتحُها، وهي لغةٌ أيضًا.
والعامة: {تَفَكَّهون} بالهاء، ومعناه: تَنْدَمون، وحقيقتُه: تُلْقُون الفُكاهةَ عن أَنْفسِكم، ولا تُلْقَى الفُكاهةُ إلاَّ من الخِزْيِ فهو من بابِ: تَحَرَّج وتَأَثَّم وتَحَوَّب. وقيل: تَفَكَّهون: تَعْجَبون. وقيل: تَلاومون، وقيل: تَتَفَجَّعون، وهذا تفسيرٌ باللازم.
وقرأ أبو حرام العكلي {تَفَكَّنون} بالنون مثل تَتَنَدَّمون. قال ابن خالويه: (تَفَكَّهَ تَعَجَّب، وتَفَكَّن تندَّمَ). وفي الحديث: «مَثَلُ العالِمِ مَثَلُ الحَمَّة يَأْتيها البُعَداء ويترُكها القُرَباء. فبيناهُمْ إذ غار ماؤها فانتفع بها قومٌ وبقي قومٌ يَتَفَكَّنون» أي: يَتَنَدَّمون.
{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)}.
قوله: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}: قرأ أبو بكر {أإنا} بالاستفهام وهو على أصلِه في تحقيقِ الهمزتَيْن وعَدَمِ إدْخال ألفٍ بينهما والباقون بالخبر. وقبلَ هذه الجملةِ قول مقدرٌ على كلتا القراءتين. وذلك في محلِّ نصبٍ على الحالِ تقديرُه: فَظَلْتُم تَفَكَّهون قائلين أو تقولون: إنا لمُغْرَمون أي: لَمُلْزَمون غَرامةَ ما أَنْفَقْنا أو مُهْلَكون لهلاكِ رِزْقِنا، من الغَرام وهو الهلاكُ. قاله الزمخشري. ومن الغَرام بمعنى الهَلاك قوله:
إن يُعَذِّبْ يَكُنْ غَرامًا وإنْ يُعْ ** طِ جَزيلًا فإنَّه لا يُبالي

{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)}.
قوله: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا}: قد تقدَّم عدمُ دخولِ اللامِ في جواب {لو} هذه. وقال الزمخشري: (فإن قلتَ: لِمَ أُُدخِلَتِ اللامُ في جواب (لو) في قوله: {لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65] ونُزِعَتْ منه ههنا؟ قلت: إنَّ (لو) لمَّا كانَتْ داخلةً على جملتَيْن، مُعَلَّقةٍ ثانيتُهما بالأولى تعليقَ الجزاءِ بالشرط، ولم تكن مُخَلِّصةً للشرط كـ: (أن) ولا عاملةً مثلَها، وإنما سَرَى فيها معنى الشرطِ اتفاقًا، من حيث إفادتُها في مضومونَيْ جملَتَيْها أنَّ الثاني امتنع لامتناع الأولِ، افتقرَتْ في جوابِها إلى ما يَنْصَبُّ عَلَمًا على هذا التعليقِ، فزِيْدَتْ هذه اللامُ لتكونَ عَلَمًا على ذلك، فإذا حُذِفَتْ بعدما صارَتْ عَلَمًا مشهورًا مكانُه فلأِنَّ الشيءَ إذا عُلِمَ وشُهِر مَوْقِعُه وصار مَأْلوفًا ومَأْنوسًا به لم يُبالَ بإسقاطِه عن اللفظِ، استغناءً بمعرفةِ السامع. ألا ترى إلى ما يُحْكى عن رؤبةَ أنه كان يقول: (خير) لمَنْ يقول له: كيف أصبحْتَ؟ فَحَذَفَ الجارَّ لِعِلْمِ كلِّ أحدٍ بمكانِه وتَساوي حالَيْ إثباتِه وحَذْفِه لشُهْرةِ أَمْرِه. وناهِيك بقول أوس:
حتى إذا الكَلاَّبُ قال لها ** كاليومِ مَطْلوبًا ولا طَلَبا

فحذفَ (لم أَرَ) حَذْفُها اختصارٌ لفظي، وهي ثابتةٌ في المعنى فاستوى الموضعان بلا فرقٍ بينهما. على أن تَقَدُّمَ ذِكْرِها والمسافةُ قصيرةٌ مُغْنٍ عن ذِكْرِها ثانيةً. ويجوزُ أَنْ يُقال: إنَّ هذه اللامَ مفيدةٌ معنى التوكيدِ لا مَحالةَ، فأُدْخِلَتْ في آيةِ المطعوم دونَ آيةِ المَشْروبِ، للدلالةِ على أنَّ أَمْرَ المطعومِ مُقَدَّمٌ على أَمْرِ المشروبِ، وأنَّ الوعيدَ بفَقْدِهِ أشدُّ وأصعبُ من قِبَلِ أنَّ المشروبَ إنما يُحتاجُ إليه تَبَعًا للمطعوم، ألا ترى أنك إنما تَسْقي ضيفَك بعدما تُطْعِمُهُ، ولو عَكَسْتَ قَعَدْتَ تحت قول أبي العلاءِ:
إذا سُقِيَتْ ضُيوفُ الناس مَحْضًا ** سَقَوْا أضيافَهم شَبِمًا زُلالا

وسُقِي بعضُ العربِ فقال: أنا لا أَشْرَبُ إلاَّ على ثميلة، ولهذا قُدِّمَتْ آيةُ المطعومِ على آيةِ المشروب انتهى.
قال الشيخ: وقد طوَّل الزمخشريُّ. فلم يَذْكُرْ هذا الكلامَ الحسنَ، ثم ذَكَر بعض كلامِه، وواخَذَه في قوله: إنَّ الثاني امتنع لامتناعِ الأول. وجعلها عبارةَ بعض ضعفاءِ المُعْرِبين، ثم ذكر عبارةَ سيبويه، وهي: حرفٌ لِما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه، وذكر أنَّ قول مَنْ قال: امتناع لامتناع. فاسدٌ بقولك: لو كان هذا إنسانًا لكان حيوانًا، يعني أنه لا يَلْزَمُ مِن امتناع الإِنسانية امتناعُ الحيوانية. ومِثْلُ هذه الإِيراداتِ سهلةٌ وإذا تَبِعَ الرجلُ الناسَ في عبارتهم لا عليه. على أنها عبارةُ المتقدِّمين من النحاة، نَصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ.
وقوله: {مِنَ المزن}: السحاب وهو اسم جنس واحدُه مُزْنة. قال الشاعر:
فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ** ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالها

وقال الآخر:
ونحن كماءِ المُزْنِ ما في نِصابِنا ** كَهامٌ ولا فينا يُعَدُّ بخيلُ

{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)}.
قوله: {تُورُونَ}: مِنْ أَوْرَيْتُ الزَّنْدَ أي: قَدَحْتَه فاستخرجتَ نارَه، ووَرِي الزَّنْدُ يَرِي أي: خَرَجَتْ نارُه. وأصلُ تُوْرُوْن تُوْرِيُون.